بكر عبد الحق يكتب: من الدقة إلى الشفافية: تحديات الذكاء الاصطناعي في صناعة الأخبار
ما تزال تجليات الثورة الرقمية للاتصال بادية في المشهد الإعلامي، وهي آخذة بالتطور يوماً بعد يوم في ظل التقنيات المستحدثة في البيئة الرقمية للإعلام، لتشكل تقنيات الذكاء الاصطناعي أبرز ملامح عصر الإعلام الجديد، بعدما شكلت الميديا الجديدة عنواناً رئيسياً له خلال العقد الماضي خصوصاً مع ازدياد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار.
وتُقدم هذه التقنيات إمكانيات هائلة لتعزيز الكفاءة والدقة وتوسيع نطاق التغطية، لكنها تُثير أيضًا جملة من التحديات الأخلاقية التي تتطلب نقاشًا عميقًا وتوجهات واضحة لضمان استخدامها بشكل مسؤول.
ولاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار مزايا عدة، فهي تحسن كفاءة العمل من خلال إتمام العديد من المهام الروتينية مثل جمع البيانات وتحليلها وتلخيص الأخبار، مما يُتيح للصحفيين التركيز على مهام أكثر إبداعًا وعمقًا مثل التحليل والتحقيق.
كما تُساعد خوارزميات الذكاء الاصطناعي في مهام مثل التحقق من صحة المعلومات وتحديد الأخطاء الواقعية، وتتيح للعاملين في غرف الأخبار إمكانية تحليل كميات هائلة من البيانات لكشف الأنماط والاتجاهات المختلفة.
إلى جانب توسيع نطاق التغطية، فمن خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن متابعة الأحداث والتقارير من مصادر مختلفة، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، مما يُتيح للصحفيين/ات تغطية أوسع وأكثر شمولاً.
تجارب متنوعة وقد بدأ عدد من الوكالات الأنباء والمؤسسات العالمية فعلياً باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملها مثل: وكالة الأنباء الأسوشيتد برس (AP)، وصحيفة الواشنطن بوست، وصحيفة النيويورك تايمز، وصحيفة الغارديان، ورويترز، وغيرها من المؤسسات، وتختلف هذه المؤسسات في استخداماتها لهذه التقنيات، ومن الأمثلة على هذه الاستخدامات استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لكتابة تقارير الأرباح الفصلية للشركات، لكونها تتيح توليد مئات التقارير بسرعة فائقة، مما يترك للصحفيين المجال للتفرغ لتحقيقات أكثر عمقا.
ومن الأمثلة أيضاً روبوت الصحافة "Heliograf"، الذي يستخدم لكتابة تقارير رياضية وتغطية الانتخابات، وقد اتم استخدامه في الانتخابات الأمريكية عام 2016، لتغطية نتائج الانتخابات في الوقت الفعلي، وكتابة مقالات قصيرة ونشرها عبر موقع صحيفة "الواشنطن بوست" بسرعة فائقة.
بينما تستخدم "النيويورك تايمز" الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات القراء وتقديم توصيات مخصصة للمحتوى، ويمكن لهذه التقنية تحسين تجربة المستخدم وزيادة التفاعل مع المحتوى.
وهناك أيضاً نظام "Lynx Insight" الذي يعمل على تحليل البيانات ومساعدة الصحفيين في العثور على القصص، وتقديم اقتراحات للمقالات بناءً على الأنماط المكتشفة.
تحديات يطرحها الذكاء الاصطناعي إن هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن الذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لتحسين كفاءة وجودة العمل الصحفي، ولكن ذلك لا يلغي الحاجة إلى التعامل مع التحديات الأخلاقية لضمان الاستخدام المسؤول لهذه التكنولوجيا.
ومن هذه التحديات الأخلاقية الموضوعية والحياد، إذ تُثير خوارزميات الذكاء الاصطناعي مخاوف تجاه تحيزها المحتمل، خاصةً إذا كانت تعتمد على بيانات غير مُمثلة أو مُتحيزة بطبيعتها.
ويدق استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ناقوس الخطر تجاه دقة المعلومات التي يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تقديمها، مما قد يُؤدي إلى نشر معلومات مضللة أو غير دقيقة، وهذا يؤثر على جودة المحتوى الصحفي، وعلى ثقة الجمهور تجاه المؤسسات الإعلامية، خصوصاً أن هذه الثقة باتت مهددة بشكل كبير في عصر ما بعد الحقيقة.
كما يصعب أيضاً في ضوء استخدام هذه التقنيات تحديد المسؤولية في حال حدوث أخطاء أو تحيزات، وهذا يعود لصعوبة فهم كيفية عمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي، مما قد يُؤثر على الشفافية والمسؤولية.
إن زيادة الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، عبر أتمتة المهام المختلفة، من شأنه أن يؤدي إلى فقدان بعض الوظائف في غرف الأخبار، خاصةً في المهام الروتينية، ناهيك عن تهديده لحرية التعبير الذي قد ينجم عن استخدام هذه التقنيات للرقابة على المحتوى أو التلاعب بالرأي العام، مما يُهدد حرية التعبير ووصول الجمهور إلى المعلومات.
تقودنا هذه التحديات إلى الاستنتاج الدائم بأن التكنولوجيا والرقمنة سيف ذو حدين، لا يمكن استخدامها بشكل مثالي دون مبادئ توجيهية تضمن استخدام الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار مع الالتزام بأخلاقيات وقواعد العمل الصحفي.
بالتالي يجب أن تضمن الموضوعية والحياد، عند استخدام هذه التقنيات، م وتجنب أي تحيزات محتملة، و مراجعة مخرجات الذكاء الاصطناعي بعناية للتحقق من دقتها وصحتها قبل نشرها.
إلى جانب ضمان الشفافية والمسؤولية في طريقة عمل خوارزميات الذكاء الاصطناعية، وتحديد المسؤولية عن أي أخطاء أو تحيزات.
إن توجه المؤسسات الإعلامية للاعتماد على الذكاء الاصطناعي في جانب من الوظائف والمهام في غرف الأخبار، لا يجب أن يكون بديلاً عن الجهد البشري، والعاملين من الصحفيين والصحفيات، بل عاملاً مساعداً ومعززاً لهم، من خلال توفير برامج تدريبية لمساعدة الصحفيين على التكيف مع التغييرات.
تقدم هذه التقنيات فرصًا غير مسبوقة لتعزيز كفاءة ودقة الصحافة، وتوسيع نطاق التغطية بطرق لم نكن نتخيلها قبل بضع سنوات.
ومع ذلك، لا يمكننا التغافل عن التحديات الأخلاقية الجوهرية التي تأتي مع هذه التطورات.
إن المستقبل يحمل الكثير من الإمكانيات المثيرة، والذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون حليفًا قويًا إذا استخدمناه بحكمة ومسؤولية، وتوازن دقيق بين التقنية والأخلاقيات، لضمان صحافة أفضل وأكثر مصداقية.